يجمع أهل الاستشراق والباحثون العرب على أن مصر هي أغنى الشعوب بالحكم والأمثال ، فإن ثروتنا منها تفوق ثروة شعوب العالم مجتمعة كما تفوقها في دقة الفكرة ونفاذ التأثير ، وفي أسلوبها الحي الضاحك اللاذع التي تتجلى فيه روح الفكاهة القوية المتدفقة المتفوقة ..
وإليك مقارنات سريعة بين بعض حكم الشعوب وأمثالها مما ترادف في المعنى ، واختلف في التصوير والتعبير لعلها تقوم دليلاً على ذلك .
يقول المثل الهندي : ” القول الحسن أقطع من كل سلاح ” .. ويقول المثل الصيني في نفس المعنى : ” كلمة طيبة تملك بها الدنيا” .. ويورده الروسي بطريقة سلبية ، فيقول : ” لسان الروسي عدوة” .. وينشده الشاعر العربي في شعره داعيًا إليه ،
فيقول : لا خيل عنك تهديها ولا مال فليسعد القول أن لم تسعد الحال ويأتي ابن البلد فيبرز هذا المعنى بأسلوبه الفكه في صورة حية ملموسة من صور الحياة ، فيقول : ” لسانك حصانك إن صنته صانك وإن هنته هانك ” ..
فيجمع بذلك بين شطري الفكرة ، ويبصر بشتى العواقب .. ويقول أهل السويد في مثلهم : ” الأزهار الجميلة لا تبقى طويلاً ” ، ولكن العامي الساخر عندنا يورد نفس المعنى بصورة ألذع وأوقع ، فيقول : ” عمر الشقي بقي” .
ويقول الإنجليز في مثلهم : ” أترك ما ليس من شأنك ” .. ونسمع من العرب نفس المعنى في مثلهم الذي يقول : ” من تدخل فيما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه” .. ولكن ابن البلد يصوره بصورة كاريكاتورية حية مستمدة من واقع حياتنا وبيئتنا الزراعية ، فيقول : ” أردب ما هو لك ، ما تحضر كيله .. تتعفر دقنك و تتعب في شيله ” .. وواضح أن ذلك ينصب على ما هو من صميم حق الغير الذي لا يصح أن نقترب منه أو نعتدي عليه ، أما ما هو حق المجتمع فللكل نصيب فيه ، وعلينا جميعًا واجب حتمي في الاهتمام به والمساهمة في تقويمه وتنميته ..
ويقول الروس : ” أسهل لك أن تملأ عشرين بطنًا من أن تملأ عينين ” .. فيطابقه ابن البلد بطريقته الساخرة قائلاً : ” ابن آدم ما يملاش عينه إلا التراب ” .. و مع ذلك فهو يدعو إلى الإيمان بأن ” القناعة كنز لا يفنى ” .. ، ويقول : ” الطمع يقل ما جمع ” .. وأن ” أكلة هنية تكفي مية ” .. بل لا يتم مطلقًا بأن تكرم بطنه مفضلاً أن تكرم نفسه أو روحه بالكلمة الطيبة وسماحة اللقاء ،
فيقول لك : ” لاقيني ولا تعديني ” .. ويؤمن الإنجليز بسياسة الدهاء ، أو ” تمسكن حتى تمكن ” .. ، فيعملون بذلك المثل الذي كان يردده دائمًا زعيمهم / تشرشل ، فيقول : ” جميل أن تضحك ولكن الأجمل أن تضحك في النهاية ” ..
ويلخص ابن البلد هذا المثل فيقول : ” الشاطر إللي يضحك الآخر ” ، ويقول الصيني في حكمته : ” أحب من يحبك ، وتجاهل من يكرهك ” .. فينظمها ابن البلد في موال رائع
فيقول : من حبنا حبناه .. وصار متاعنا متاعه ومن كرهنا كرهناه .. يحرم علينا اجتماعه وكما يقول فيلسوفنا الشعبي ابن عروس في موال آخر : قال من داداك داديه .. واجعل عيالك عبيده ومن عاداك عاديه .. روحك ما هياش في أيده ولليابانيين مثل يقول : ” حبيبك لا يرى إلا محاسنك ” ..
ويطابقه العرب بقولهم : ” المحبة تداري العيوب ” . وينشد شاعرهم نفس المعنى ، فيقول : وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا ومرت السنوات لأجد خلال دراساتي للأمثال الشعبية أن ابن البلد يضع نفس المعنى في إطار بارز قريب التناول سريع الوقع ،
فيقول : ” حبيبك يمضغ لك الزلط وعدوك يتمنى لك الغلط ” ، و يقول : ” حبيبك إللي تحبه ولو كان .. قرد ! ” إننا في أمس الحاجة لأن نتأمل وندرس حكم الشعوب وأمثالها لنرى فيها بعض اتجاهاتها الفكرية المختلفة ،
ونعرف من خلالها أساس التباين بين الشرق برؤيته الروحانية لهذه الأمثال وتلك الحكم ، تلك الروحانية التي تقدس العقائد والمعنويات السامية رغم كل الظروف والصروف والمعاناة التي يمر بها ، على عكس الغرب الذي مازال يحكم على الأمور عبر الواقع المادي الذي لا يؤمن إلا به